تعترض التفكير في مستقبل سوريا عقبة معرفية تفوق قدرة الأفراد منفصلين على تجاوزها، مهما أوتي أحدهم من علم. قوام هذه العقبة أن المستقبل هو ممكنات الحاضر؛ فمن ذا الذي بوسعه أن يستشف تلك الممكنات، ويقف على مكر التاريخ الذي يغلب واحداً منها على بقيتها؟ هذه الحال تقتضي نوعاً من التفكير الجماعي، والنقاش العام، على الرغم من الحرب الدائرة، بل بسببها.
منذ عقود والسوريون ممنوعون من التواصل والمناقشة الحرة، وممتنعون عن ذلك، بحكم التماهي بالمستبد والاقتداء به. هذان المنع والامتناع كانا الحائلين الرئيسين أمام تلافي الحرب. لكن لكل حرب نهاية؛ حين تنتهي الحرب، قد يثوب المجتمع إلى نفسه ويستعيد روحه الإنساني، وقد يستأنف حرباً باردة تهيئ شروط انفجار حرب جديدة، ما لم تجتمع إرادة الأفراد والجماعات على عقد اجتماعي جديد يستأصل أسباب الحرب وعواملها، ويجعل تكرارها صعباً، إن لم نقل مستحيلاً.
التواصل والمناقشة الحرة شرطان أوليان لإمكان التوافق الاجتماعي على عقد جديد. هنا تتعين مسؤولية المثقفات والمثقفين وكتلة الإنتلجنتسيا السورية وتنظيمات المجتمع المدني، فعلى عاتقهم تقع مسؤولية التواصل والمناقشة الحرة، ومسؤولية توفير الشروط التي تجعل العقد الاجتماعي ممكناً. من أبرز الشروط التي تجعل التواصل والمناقشة مجديين ومن أهمها تحلي هؤلاء جميعاً بروح العدالة أو حس العدالة الذي يفترض أنه قسمة مشتركة بين جميع الأفراد العقلاء والأخلاقيين إناثاً وذكوراً. إذ لم ينفصل العقل عن الأخلاق إلا وتحوّل العقل إلى عقل أداتي، نفعي بأسوأ معاني النفعية، وتحولت الأخلاق إلى أيديولوجية تبريرية ذات سيماء كلبية. والعدالة فضيلة عقلية - أخلاقية تتجلى في العدل في الأحكام العقلية والعملية والاعتدال في المواقف. الفضيلة وسط بين رذيلتين.
بدون روح العدالة يمكن التوصل إلى "عقد اجتماعي" هو ترجمة لنتائج الحرب، أي عقد يقوم على مبدأ الغَلَبة والقهر، عقد إذعان يفرضه "المنتصرون"، أي الخاسرون الأقوياء، مثل هذا العقد يكون عادة بين جماعات تبتلع الأفراد وتهدر إنسانيتهم، لا بين أفراد حرائر وأحرار، فيكون السلم، من ثم، هدنة بين حربين. التجربة اللبنانية والعراقية شاهدان قريبان، والتجربة السورية تحمل مثل هذه الإمكانية، وتحمل نقيضها أيضاً، إلا لدى الغارقين في اليأس، ولهذا ما يبرره. يستيقظ حس العدالة الغافي إذا اجتمعت إرادة السوريين على أمر واحد فقط هو: "لن نقتتل ثانية".
تكتسب فكرة العدالة أهميتها النظرية والعملية من تأثيرها العميق في بنية المجتمع الأساسية وسلوك الأفراد وتشكيل ذواتهم وعلاقاتهم المتبادلة، وارتباطها الوثيق بمبادئ المواطنة والإنصاف، ومفهومي الخير والحق، وتكافؤ المعاني والقيم والرموز، التي يضفيها الأفراد والجماعات على أعمالهم، وأثرها في تمكين المجتمع من استثمار رأس ماله المادي والاجتماعي والثقافي والرمزي على وجه أفضل فأفضل. هذا كله يجعلها موضوعاً لتأويلات شتى واجتهادات مختلفة، سواء من حيث تعيين حقوق الأفراد الجماعات وحقوق المجتمع، وإمكانية التوافق أو عدم التوافق على ما هو خير لكل فرد على حدة ولكل جماعة على حدة، وما هو خير للمجتمع كله، أو من حيث تعيين علاقة الحق بالحقيقة واختلاف رؤى الأفراد والجماعات لما هو الحق، وما هي الحقيقة.
ولما كان الأفراد يختلفون في هذا كله وفي غيره فمن البديهي أن يختلفوا في تحديد ما هو عدل وما هو جور وظلم، باختلاف مواقعهم ومنظوراتهم، فضلاً عن مصالحهم ورغباتهم وغاياتهم. ولكن، هل هذا الاختلاف مطلق ولا سبيل إلى التوافق على مبادئ ومعايير مشتركة؟ وإذا كان الاختلاف هو الشكل الرئيس لتعيُّن الحرية، كما نزعم، فهل الائتلاف والتوافق حد على الحرية وحد منها وتقليص لها؟ قضية العقد الاجتماعي، من هذه الزاوية هي قضية الحرية قبل أن تكون قضية المساواة والإنصاف، إذ لا معنى ولا قوام لأي منهما في ظل التعسف والقسر والاستبداد. وإذا كانت الحرية تتجلى في استقلال الأفراد، فهل هذا الاستقلال مطلق أم نسبي؟
نعتقد أن استقلال الإنسان عن الطبيعة الأم وتبعيته لها تبعية وجودية، في الوقت نفسه، بصفتها مصدر حياته البيولوجية والفيزيقية، يعينان استقلال الأفراد في المجتمع وتبعيتهم المتبادلة من جهة، وتبعيتهم للتنظيمات والمؤسسات من جهة أخرى. فلا حرية للأفراد ولا مساواة ولا عدالة خارج إطار العلاقات الاجتماعية والإنسانية وما تعينه من تنظيمات ومؤسسات، وخارج المجتمع والدولة، بصفتها جميعاً أشكال وجودهم الاجتماعي والثقافي والسياسي، أو أشكال حياتهم الإنسانية. فإن مجرد انجراح الفرد معنوياً من الأخرى أو الآخر دليل قاطع على التبعية المتبادلة والتحديد المتبادل والاعتماد المتبادل بين الأفراد، بغض النظر عن العرق واللغة والدين والجنس ولون البشرة وغيرها من الاعتبارت. لكن هذا نفسه يشير إلى أولية الاستقلال الذاتي للأفراد، الذي بدّدته النظم البطركية والاستبداد الديني والسياسي. هذه الأولية التي ندعيها للاستقلال الذاتي للأفراد، بالمعنى الكانطي، شرط لازم للعدالة في الحكم العقلي والعملي وشرط لازم للعدالة الاجتماعية، التي يفترض أن تكون أساس العقد الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين.
فكرة الاستقلال الذاتي بصفتها شرطاً لازماً للعدالة وتمكن الأفراد من تحقيق ذواتهن وذواتهم، وتنمية قدرتهم على الإفادة من الخيرات الاجتماعية المتاحة، في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع، فكرة الاستقلال مثلها مثل فكرة العدالة ليست طوباوية، وليست نافلة أو مما يمكن تأجيله إلى ما بعد ..، بل هي ضرورة اجتماعية وثقافية وسياسية وأخلاقية لا تنفصل عن حقوق الإنسان والمواطن، التي تتقدمها حرية الإنسان وكرامته الإنسانية وحقه في حياة إنسانية لائقة. فهي المدخل الضروري لتخليص الاجتماع المدني والاجتماع السياسي من أوضار الطائفية المذهبية، إذ صناعة الطائفية المذهبية، كصناعة النسيج، تحتاج إلى سدى (جمع سداة) ولحمة؛ السدى هي شعور الجماعات بالتمايز والاختلاف، وهذا أمر بدهي ولا ضير منه ولا شر فيه، واللحمة هي السياسة الطائفية المذهبية للسلطة المركزية. فحين تكف السلطة المركزية، سلطة الدولة، عن كونها لحمة الطائفية المذهبية، تكف الطائفية المذهبية عن الوجود، بصفتها هوية ونسقاً لتوليد الكراهية والعنف، ويغدو الاختلاف، من ثم، ثروة اجتماعية وثقافية وأخلاقية. الدولة الوطنية من هذه الزاوية ليست غاية العقد الاجتماعي، بل هي العقد نفسه، العقد الذي يتغيا ضمان حرية الأفراد واستقلالهم وضمان حقوقهم وكرامتهم الإنسانية، والذي يجب كسبه وإعادة إنتاجه كل يوم.
على هذا الأساس يجب القول بصراحة: إن الروح الطائفية المذهبية، الإثنية أو الدينية، والروح الحزبية اللتين تهدران إنسانية الأفراد وتحولان دون استقلالهن واستقلالهم الذاتي مناهضتان للعدالة ولا تفضيان إلى عقد اجتماعي يتأسس عليها. لذلك ينبغي التعويل على انتظامات المجتمع المدني وتنظيماته، وقد ظهر منها حتى اليوم ما يبعث على الأمل، على أن ترافق ذلك حركة نقدية جذرية للتخلص من التراث التسلطي ونشر عار الاستبداد والتسلط وجرائم المستبدين على الملأ، وإدانة كل ميل لتبريرها وتسويغها، يجب أن يصير الاستبداد والتسلّط باعثين على الخجل. في الوضع السوري، حيث بلغت مقبولية الاستبداد وعبادة الفرد مستوى غير مسبوق، واستوت في ذلك الأحزاب العقائدية والجماعات الأهلية، لا يمكن كسر شوكة الاستبداد والتسلط إلا بقوة المجتمع المدني الذي لاحت بشائره منذ مطلع هذا القرن، وعبّر عنه الحراك السلمي للشابات والشباب خير تعبير، وهو أحد ممكنات الواقع، التي لا تتحقق من تلقاء ذاتها.
تفترض هذه المقاربة أن العدالة مؤسسة في اللاعدالة، أي في الحالة الطبيعية، وأن التعارض بين هذه وتلك تعارض مقيم أو دائم لا يمكن حذفه، وهو تعارض جدلي، يحيل على قابلية العدالة للنمو والانبساط، في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، والاغتناء بالتجارب الإنسانية كلما تقدمت عملية تذويت العالم وأنسنة الذات. هذه الصيغة تحيل على اللاعدالة المُدرَكة والمُتوافَق على تعيينها ووصفها، والتي يمكن رفعها، ومن ثم فإنها وسط بين حدين: العدمية والمثالية. ما يعني أننا إذا أخذنا مختلف الأحكام والآراء والمصالح والغايات ووجهات النظر في الحسبان نصل إلى إدراك إمكانية العدالة ونسبيتها وتاريخيتها، فيغدو النقاش والعمل المشترك في سبيلها ممكنين.
ندعي أن الحالة الطبيعية، أو حالة الطبيعة، التي تأسست عليها فكرة العقد الاجتماعي، على أنه ضرورة لا بد منها للانتقال إلى الحالة المدنية، ليست مجرد افتراض نظري، كما يعتقد جون رولز وآخرون، ممن يعالجون قضية العقد الاجتماعي في مجتمعات متقدمة ومستقرة، لإبراز قضية العدالة على أنها قضية العصر، أو قضية القرن الحادي والعشرين، في ضوء ميل الرأسمالية إلى التوحش وميل دكتاتورية السوق إلى الحلول محل ديمقراطية المجتمع المدني، وتحول الدولة إلى مجرد "مدبرة منزل". فالحالة السورية التي نعيش صورة من صور حالة الطبيعة و"حرب الكل على الكل"، كما وصفها هوبز، حالة خوف الجميع من الجميع خوفاً يستدعي الخافية الاجتماعية القريبة والبعيدة، ويطلق جميع الغرائز من عقالها الأخلاقي، المدني والإنساني.
فهل سيقوم كل منا بواجباته؟
وللبحث صلة